الثلاثاء، 29 مارس 2016

الفلاسفة المشاؤون أتباع أرسطو من قولهم أول الصادرات عن واجب الوجود هو العقل الأول
وقد شاع هذا في كلام كثير من المتأخرين بعد أن رأوه في كتب رسائل إخوان الصفا فإن هذه الرسائل هي عمدة لهؤلاء

===ووجدوا نحو هذا في كلام أبي حامد في مواضع وإن قيل إنه رجع عن ذلك
ثم وقع بعده في كلام من سلك هذه السبيل من الجهمية والمتفلسفة من القائلين بوحدة الوجود وغيرهم وهذا باطل من وجوه كثيرة أحدها أن هذا الحديث بهذا اللفظ والإعراب لم يروه أحد من رواة الحديث لا بإسناد صحيح ولا سقيم بل الحديث المروي وإن كان بإسناد سقيم لفظه أول ما خلق الله العقل بنصب أول والعقل وذلك لا حجة فيه على أن العقل أول مخلوق خلق إذ لفظه أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل فهو نصب على الظرف إذ ما هي المصدرية وهي والفعل بتأويل المصدر الذي يجعله ظرفا كما يقال أول ما لقيت فلانا سلمت عليه أي في أول أوقات لقيه سلمت عليه
وإذا كان معناه أنه قال له في أول أوقات خلقه هذا القول لم يدل على أنه أول مخلوق بل هو دليل على أنه خلق قبله غيره

=إذ قد قال له في أول أوقات خلقه ما خلقت خلقا أكرم علي منك وإن كان قد تحذلق من تحذلق من الجهميين القائلين بوحدة الوجود وغيرهم ففسروا الإقبال والإدبار بما لا يدل عليه اللفظ واختلفوا في ذلك حتى أن صاحب البيد يفسر الإقبال والإدبار بما يرجع محصوله إلى أصله الفاسد من أن وجوده وجود الحق
فمعلوم أن هذا ليس هو قول هؤلاء الفلاسفة ولكن أرسطو حكى عن بعض قدماء الفلاسفة أنه كان يقول الوجود واحد ورد ذلك عليه==00فقول هؤلاء يواطئ هذا القول الذي لم يرضه هؤلاء الفلاسفة وقد كان صاحب البيد يقول عن صاحب الفصوص والفتوحات المكية إن كلامه فلسفة مخموجة أي عفنة فيكون كلامه هو فلسفة منتنة وسواء كان قولهم أو لم يكن فمعلوم أن اللفظ المذكور لا يدل على ما فسره به بوجه من وجوه دلالات اللفظ ولكن هؤلاء سلكوا مسلك القرامطة الباطنية وهم من المتفلسفة المنتسبين إلى الإسلام وكان ابن سينا يقول كان أبي من أهل دعوتهم ولذلك قرأت كتب الفلاسفة ومعلوم أن مقالات هؤلاء من ابعد المقالات عن الشرع والعقل فإنهم يسفسطون=====في العقليات ويقرمطون في السمعيات فيحرفون الكلم عن مواضعه أعظم من التحريف الذي عيب به اليهود والنصارى إلا من تقرمط من الأميين من متفلسفيهم فإنه شبيه بهم
وقد علم بالاضطرار أن ما يفسرون به كلام الله تعالى ورسوله بل وكلام غيرهما ليس داخلا في مرادهم فضلا عن أن يكون هو المراد بل غالب تفاسيرهم منافية لما أراده الله تعالى إما من ذلك اللفظ وإما من غيره وإن كان طوائف من المشهورين بالفقه والتصوف يطلقون هذه العبارات الإسلامية بالتفاسير الفلسفية القرمطية فقد صرحوا بأن ذلك مأخوذ عن هؤلاء كما ذكر أبو حامد في كتابه معيار العلم لما تكلم على الحدود قال=======ولكنا أوردنا حدودا مفصلة لتحصل الدربة بكيفية تحرير الحد وتأليفه فإن الإمتحان والممارسة للشيء تفيده قوة عليه لا محالة
والثاني لأن يقع الإطلاع على معاني أسماء أطلقها الفلاسفة وقد أوردناها في كتاب تهافت الفلاسفة إذ لم يمكن مناظرتهم إلا بلغتهم وعلى حكم اصطلاحهم وإذا لم نفهم ما أوردناه في اصطلاحهم لا يمكن مناظرتهم
فقد أوردنا حدود ألفاظ أطلقوها في الإلهيات والطبيعيات وشيئا قليلا من الرياضيات فلتؤخذ هذه الحدود على أنها شرح الاسم
فإن قام البرهان على أن ما شرحوه هو كما شرحوه اعتقد حدا وإلا اعتقد شرحا للاسم وإنما قدمنا هذه المقدمة لتعلم أن ما نورده من الحدود شرح لما أراده الفلاسفة بإطلاق لا حكم بأن ما ذكروه على ما ذكروه فإن ذلك إنما يتوقف على النظر في موجب البرهان عليه======قال والمستعمل في الإلهيات أربع عشرة لفظة وهو
الباري تعالى وهو المسمى بلسانهم المبدأ الأول
والعقل
والنفس
والعقل الكلي
وعقل الكل
والنفس الكلي
ونفس الكل
والملك
والعلة
والمعلول
والإبداع
والخلق
والإحداث
والقديم
إلى أن قال
العقل الكلي وعقل الكل والنفس الكلي ونفس الكل وبيانه أن الموجودات عندهم يعني الفلاسفة ثلاثة أقسام
أجسام وهي أخسها
وعقول فعالة وهي أشرفها لبرائتها عن المادة وعلاقة المادة حتى أنها لا تحرك المواد أيضا إلا بالشوق========وأوسطها النفوس وهي التي تنفعل عن العقل وتفعل في الأجسام فهي واسطة
ويعنون بالملائكة السماوية نفوس الأفلاك فإنها حية عندهم
وبالملائكة المقربين العقول الفعالة
فالعقل الكلي يعنون به المعنى المعقول المقول على كثيرين مختلفين بالعدد من العقول التي لأشخاص الناس ولا وجود لها في القوام بل في التصور فإنك إذا قلت الإنسان الكلي أشرت به إلى المعنى المعقول من الإنسان الموجود في سائر الأشخاص الذي هو في العقل صورة واحدة تطابق سائر أشخاص الناس ولا وجود لإنسانية واحدة هي إنسانية زيد وهي بعينها إنسانية عمرو ولكن في العقل نحصل صورة الإنسان من شخص واحد مثلا وتطابق سائر أشخاص الناس كلهم فيسمى ذلك الإنسانية الكلية فهذا ما يعني بالعقل الكلي
وأما عقل الكل فيطلق على معنيين لأن الكل يطلق على معنيين
أحدهما وهو الأوفق للفظ أن يراد بالكل جملة العالم فعقل الكل على هذا المعنى بمعنى شرح اسمه أنه جملة الذوات المجردة عن المادة من جميع الجهات التي لا تتحرك لا بالذات ولا بالعرض ولا تتحرك إلا بالشوق وآخر رتبة هذه الجملة هو العقل الفعال======المخرج للأنفس الإنسانية في العلوم القلية من القوة إلى الفعل وهذه الجملة هي مبادئ الكل بعد المبدأ الأول
والمبدأ الأول هو مبدع الكل
وأما الكل بالمعنى الثاني فهو الجرم الأقصى أعني الفلك التاسع الذي يدور في اليوم والليلة فيتحرك بحركته كل ما هو حشوه من السموات كلها فيقال لجرمه جرم الكل ولحركته حركة الكل وهو اعظم المخلوقات وهو المراد بالعرش عندهم فعقل الكل بهذا المعنى جوهر مجرد عن المادة من كل الجهات وهو المحرك لحركة الكل على سبيل التشويق لنفسه ووجوده أول وجود مستفاد عن الأول ويزعمون أنه المراد بقوله عليه الصلاة و السلام أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل الحديث إلى آخره
قال وأما النفس الكلي فالمراد به المعنى المقول على

=======كثيرين مختلفين بالعدد في جواب ما هو أي التي كل واحد منها نفس خاصة لشخص كما ذكرنا في العقل الكلي ونفس الكل على قياس عقل الكل جملة الجواهر الغير جسمانية التي هي كمالات مدبرة للأجسام السماوية المحركة لها على سبيل التشويق والاختيار العقلي
ونسبة نفس الكل إلى عقل الكل كنسبة أنفسنا إلى العقل الفعال
ونفس الكل هو مبدأ قريب لوجود الأجسام الطبيعية ومرتبته في نيل الوجود بعد مرتبة عقل الكل ووجوده فائض عن وجوده
وقد قال أبو حامد قبل هذا
وأما العقول الفعالة فهي نمط آخر
والمراد بالعقل الفعال كل ماهية مجردة عن المادة اصلا فحد العقل الفعال أما من جهة ما هو عقل أنه جوهر صوري ذاته ماهية مجردة عن ذاتها لا بتجريد غيرها عن المادة وعن علائق المادة بل هي ماهية كل موجود
فأما من جهة أنه فعال فإنه
جوهر بالصفة المذكورة ومن شأنه أن يخرج العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل بإشراقه عليه==وليس المراد بالجوهر المتحيز كما يريده المتكلمون بل هو قائم بنفسه لا في موضوع
والصوري احتراز عن الجسم وما في المواد
وقولهم لا بتجريد غيره احتراز عن المعقولات المرتسمة في النفس من أشخاص الماديات فإنها تتجرد بتجريد العقل إياها لا بتجريدها بذتها إذ العقل الفعال المخرج لنفوس الآدميين بالعلوم من القوة إلى الفعل فنسبته إلى المعقولات والقوة العاقلة كنسبة الشمس إلى الإبصار والمبصرات والقوة الباصرة إذ يخرج الإبصار من القوة إلى الفعل
وقد يسمون هذه العقول الملائكة
وفي وجود جوهر على هذا الوجه يخالفهم المتكلمون إذ لا وجود لعالم بنفسه غير متحيز إلا الله وحده
والملائكة عندهم أجسام لطيفة متحيزة عند أكثرهم
وتصحيح ذلك بطريق البرهان وما ذكرناه شرح الاسم ثم قال حد النفس هو عندهم اسم مشترك يقع على معنى يشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات وعلى معنى آخر يشترك فيه الإنسان والملائكة السماوية عندهم
فحد النفس بالمعنى الأول عندهم أنه===كمال جسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة
وحد النفس بالمعنى الآخر أنه
جوهر غير جسم وهو كمال للجسم متحرك محرك له بالاختيار عن مبدأ قطعي أي عقلي بالفعل أو بالقوة
فالذي بالقوة هو فصل للنفس الإنسانية
والذي بالفعل هو فصل للنفس الملكية
قلت قوله عنهم إن نفس الكل هو مبدا قريب للأجسام الطبيعية فيه كلام بينهم من جهة أن أكثرهم يقولون أن العقل نفسه هو المبدأ للأجسام
وكذلك قوله العقول الفعالة فيه كلام من جهة أن المسمى بالعقل الفعال عندهم هو الآخر العاشر كما قد بينه أنه هو الذي يخرج نفوس الآدميين من القوة إلى الفعل=====وما ذكره عنهم من الفرق بين العقول والنفوس وبين الأجسام بأن تلك مجردة عن المادة والأجسام في المادة منبئ على أن للجسم مادة هي جوهر قائم بنفسه وهو من أعظم الباطل
وما ذكروه من التجريد واحترازهم عن المعقولات بقوله
لا بتجريد غيره يقتضي الاشتراك في مسمى العقل
وهذا العقل عرض من الأعراض وذاك جوهر قائم بنفسه
ولا ريب أن كلامهم في إثبات ذلك وإن كان مهيبا عند من لم يمعن النظر فيه فهو عند التحقيق في غاية الفساد والتناقض والاضطراب كما قد أوضحناه في غير هذا الموضع
وكذلك ما ذكره عن المتكلمين في المتحيز فإن لهم في ذلك نزاعا وفيه تفصيل ليس هذا موضعه=====لكن ليس المقصود هنا إلا أن أبا حامد وأمثاله يقرون بأن جعل هذه المعاني الفلسفية مسميات بهذه الأسماء النبوية هو من كلام هؤلاء المتفلسفة
فإذا وجد مثل ذلك في كلام واحد من هؤلاء علم أنه احتذى حذوهم لئلا يغتر بذلك من قد ينازع في ذلك أو يرتاب فيه أو لا يخطر بقلبه لحسن ظنه بمن يتكلم بالعبارات الإسلامية النبوية أنه لا يريد بها ما يعنيه هؤلاء المتفلسفة وما أحسن ما قال شيخ الإسلام الهروي فيمن هو أحسن حالا من هؤلاء من أهل الكلام قال أخذوا مخ الفلسفة فلبسوه لحاء السنة
وبسبب هذا ضل طوائف ممن لم ينكشف لهم حقيقة مقاصد الناس فلا يفهمون ما يقصده الأنبياء والرسل ولا ما يقصده هؤلاء حتى يقابلوا بين هذه المعاني وتلك فيعلمون هل هي متفقة متشابهة ام مختلفة بل متضادة بل قد يحرفون كلام أئمتهم إذا ظهر المسلمون فيصرفونه إلى ما يقبله المسلمون وكذلك ذكر الكاشفون لأسرار القرامطة والهاتكون لاستارهم كالقاضي أبي بكر الطيب والقاضي أبي يعلى

=====طوائف كثيرة ما وجدنا مصداقه في كتب القرامطة من أنهم وضعوا لأنفسهم اصطلاحات روجوها على المسلمين ومقصودهم بها مقصود الفلاسفة الصابئين والمجوس الثنوية كقولهم السابق والتالي يعنون به العقل والنفس
ويقولون هو اللوح والقلم
وأصل دينهم مأخوذ من دين المجوس والصابئين
وكذلك السهروردي الحلبي المقتول كلامه في الباطن يأخذه من

=مادة الفلاسفة الصابئين والمجوس وبهذه المعاني يتميز عن غيره من الفلاسفة المشائية ولهذا يعظم الأنوار وهؤلاء الذين سلكوا مسلك فارس والروم هم من الداخلين في قوله في الحديث الصحيح
لتأخذن مآخذ الأمم قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا يا رسول الله فارس والروم قال ومن الناس إلا هؤلاء
وقد بسطنا ما يتعلق بهذا في غير هذا الموضع
ثم إنهم مع إقرارهم بأن جعل هذه المعاني الصابئية الفلسفية هي مسميات هذه الأسماء النبوية او التي يقال إنها نبوية هو من كلام هؤلاء المتفلسفة يقطعون بذلك في مواضع أخر بل فيما يجعلونه من أشرف العلوم والمعارف حتى إنهم يجعلونه من العلوم التي يضن بها على غير=أهلها ومن العلم المكنون الذي ينكره أهل الغزة بالله ولا يعرفه إلا أهل العلم بالله وهذا موجود في مواضع كثيرة كما في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة لما ذكر أن الكفر هو تكذيب الرسول في شيء مما جاء به وقيل مع ذلك أن التصديق أنه ينظر أن الخبر وحقيقته الاعتراف بوجود ما أخبر الرسول بوجوده إلا أن للوجود خمس مراتب ذاتي وحسي وخيالي وعقلي وشبهي
والكلام على هاتين المقدمتين وما في الأولى من التفريط والتقصير عن الحق وما في الثانية من العدوان والزيادة على الحق له مواضع غير هذا لكن المقصود أنه قال
وأما الوجود العقلي فأمثله كثيرة إلى أن قال
المثال الثاني قوله عليه الصلاة و السلام إن الله تعالى خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا
فقد أثبت لله تعالى يدا ومن قام عند البرهان على استحالة يد الله تعالى هي جارحة محسوسة أو متخيلة يثبت لله تعالى يدا روحانية==عقلية أعني أنه يثبت معنى اليد وحقيقتها وروحها دون تصورها إذ روح اليد ومعناها ما يبطش به ويفعل ويعطي ويمنع والله تعالى يعطي ويمنع بواسطة الملائكة كما قال عليه السلام اول ما خلق الله العقل فقال بك أعطي وبك أمنع
ولا يمكن أن يكون المراد بذلك العقل عرضا كما يعتقده المتكلمون إذ لا يمكن أن يكون العرض أو مخلوق بل يكون عبارة عن ذات ملك من الملائكة سمي عقلا من حيث يعقل الأشياء بجوهره وذاته من غير حاجة إلى تعلم
وربما يسميها قلما باعتبار أنه ينقش به حقائق العلوم في ألواح قلوب الأنبياء والأولياء وسائر الملائكة وحيا وإلهاما فإنه روى من حديث أن أول ما خلق الله القلم فإن لم يرجع ذلك إلى العقل تناقض الحديثان ويجوز أن يكون لشيء واحد أسماء كثيرة باعتبارات مختلفة فسمي عقلا باعتبار ذاته وملكا باعتبار نسبته إلى الله تعالى في كونه واسطة بينه وبين الخلق وقلما باعتبار إضافته إلى ما يصدر منه من نقش العلوم بالإلهام والوحي كما سمي جبريل روحا باعتبار ذاته وأمينا باعتبار ما أودع من الأسرار وذا قوة باعتبار قدرته وشديد القوى باعتبار كمال قوته==ومكينا عند ذي العرش باعتبار قرب منزلته ومطاعا باعتبار كونه متبوعا في حق بعض الملائكة
وهذا القائل يكون قد أثبت قلما عقليا لا حسيا وخياليا لا كونيا وكذلك من ذهب إلى أن اليد عبارة عن صفة لله تعالى إما القدرة وإما غيرها كما اختلف فيه المتكلمون
فقد جعل في تأويل هؤلاء اليد والقلم والعقل عبارة عن شيء واحد وجعله هو المراد بذلك عندهم في هذه الأسماء الواردة في الكتاب والسنة
وكذلك قال في كتاب مشكاة الأنوار لما تكلم على المشكاة والمصباح والزجاجة والشجرة والزيت والنار وجعل المشكاة هو الروح الحسي والزجاجة الروح الخيالي والمصباح العقل والشجرة الروح الفكري والزيت الروح القدسي النبوي الذي يختص به الأنبياء وبعض الأولياء وهذا الكتاب كالعنصر لمذهب الاتحادية القائلين بوحدة الوجود وإن كان صاحب الكتاب لم يقل بذلك بل قد يكفر من يقول بذلك لكن ذاك لما فيه من الإجمال تارة ومن التفلسف وإبراز مقاصد الفلاسفة في الألفاظ النبوية وتأويلها عليها تارة ومن المخالفة لما دل عليه الكتاب====والتعبير عن تلك المعاني بألفاظ الأنبياء والمرسلين مع العلم من كل من اوتي العلم والإيمان بل من كل مؤمن بأن ما في هؤلاء من مخالفة كتاب الله تعالى ورسله ودينه أعظم مما في اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل
ثم قال الفصل الثاني في بيان مثال المشكاة المصباح والزجاجة والشجرة والزيت والنار
ومعرفة هذا تستدعي تقديم قطبين يتسع المجال فيهما إلى غير حد محدود
الأول في بيان سر التمثيل ومنهاجه ووجه ضبط أرواح المعاني بقوالب الأمثلة
والثاني في بيان مراتب الأرواح البشرية النورانية إذ بمعرفتها تعرف أمثلة القرآن
وأما الفصل الثالث ففي معنى قوله إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره
وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعين ألفا
قلت وقد بسطنا الكلام على هذه الآية واسم الله النور والحجب===وما يتعلق بذلك في غير هذا الموضع وتكلمنا على ما ذكره هو وأبو عبد الله الرازي وأمثالهما في ذلك وبينا أن هذا الحديث بهذا اللفظ كذب على رسول الله باتفاق أهل المعرفة بالحديث لا يوجد في شيء من دواوين الحديث وذكرنا الحديث الذي في الصحيح حديث أبي موسى عن النبي أن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه وذكرنا الأحاديث والآثار في الحجب وكلام السلف والأئمة في ذلك وبينا مخالفة الجهمية من المتفلسفة وغيرهم وأشباههم للنصوص المتواترة في ذلك مع مخالفتهم للعقل======الصريح ولكن من لم يكن له عناية تامة باتباع المرسلين واقتفاء آثارهم والاهتداء بأعلامهم ومنارهم واقتباس النور من مشكاة أنوارهم فإنه يجعل الحديث الصحيح ضعيفا والضعيف صحيحا والمعنى الحق باطلا والباطل حقا صريحا كما يوجد في كلام سائر الخارجين عن منهاج السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان المبتدعين فيما فارقوا به طريق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة وهم الطائفة المهدية المنصورة إلى قيام الساعة كما قال رسول الله لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة
ولما تكلم صاحب مشكاة الأنوار على طريق هؤلاء في الباطن بألفاظ الكتاب والسنة في الظاهر وإن كان قد روى أنه رجع عن ذلك كله ومن الناس من يطعن في إضافة هذه الكتب إليه والمقصود التنبيه على ما في هذه الكتب المخالفة للكتاب والسنة من الضلال لئلا يغتر بها وبنسبتها إلى المعظمين أقوام جهال
قال القطب الأول في سر التمثيل ومنهاجه اعلم أن العالم عالمان روحاني وجسماني وإن شئت قلت حسي وعقلي وإن=====شئت قلت علوي وسفلي والكل متقارب وإنما يختلف باختلاف العبارات فإن اعتبرتهما في أنفسهما قلت جسماني وروحاني وإذا اعتبرتهما بالإضافة إلى العين المدركة لهما قلت حسي وعقلي وإذا اعتبرتهما بإضافة أحدهما إلى الآخر قلت علوي وسفلي وربما سميت احدهما عالم الملك والشهادة والآخر عالم الغيب والملكوت ومن يطلب الحقائق من الألفاظ ربما تحير عند كثرة الألفاظ وتخيل كثرة المعاني والذي تنكشف له الحقائق يجعل المعاني أصلا والألفاظ تبعا وأمر الضعيف بالعكس منه إذ يطلب الحقائق من الألفاظ وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم
وإذا عرفت معنى العالمين فاعلم أن العالم الملكوتي عالم غيب إذ هو غائب عن الأكثرين والعالم الحسي عالم شهادة إذ تشهده الكافة والعالم الحسي مرقاة إلى العالم العقلي ولو لم يكن بينهما اتصال ومناسبة لا نسد طريق الترقي إليه ولو تعذر ذلك لتعذر السفر إلى الحضرة الربوبية والقرب من الله تعالى فلن يقرب من الله أحد ما لم يطأ بحبوحة حظيرة القدس====والعالم المرتفع عن إدراك الحس والخيال وهو الذي نعنيه بعالم القدس وإذا اعتبرنا جملته بحيث لا يخرج منها شيء ولا يدخل فيها ما هو غريب منه سميناه حظيرة القدس وربما سميناه الروح البشري الذي هو مجرى لوائح القدس الوادي المقدس ثم هذه الحظيرة فيها حظائر بعضها أشد إمعانا في معاني القدس ولكن لفظ الحظيرة يحيط بجميع طبقاتها فلا تظنن أن هذه الألفاظ معقولة عند غير أرباب البصائر
واشتغالي الآن بشرح كل لفظ مع ذكره يصدني عن المقصد فعليك بالتشمير لفهم الألفاظ فأرجع إلى الغرض فأقول
لما كان عالم الشهادة مرقاة إلى عالم الملكوت فكان سلوك الصراط المستقيم عبارة عن هذا الترقي وقد يعبر عنه بالدين وبمنازل الهدى ولو لم يكن بينهما مناسبة واتصال لما تصور الترقي من احدهما إلى الآخر فجعلت الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت فما من شيء من هذا العالم إلا وهو مثال لشيء في ذلك العالم وربما كان الشيء الواحد مثالا لأشياء من عالم الملكوت وربما كان للشيء الواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة وإنما يكون=====مثالا إذا ماثله نوعا من المماثلة وطابقه نوعا من المطابقة وإحصاء تلك الأمثلة يستدعي استقصاء جميع موجودات العالمين بأسرها ولن تفي به القوة البشرية فغايتي أن أعرفك فيها أنموذجا لتستدل باليسير منها على الكثير وينفتح لك باب الاستبصار بهذا النمط من الأسرار فأقول
إن كان في عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة عالية يعبر عنها بالملائكة منها تفيض الأنوار على الأرواح البشرية ولأجلها قد تسمى أربابا ويكون الله تعالى رب الأرباب لذلك ويكون لها مراتب في نورانيتها متقاربة فالبحري أن يكون مثالها في عالم الشهادة الشمس والقمر والكواكب والسالك للطريق أولا ينتهي إلى ما درجته درجة الكواكب فيتضح له إشراق نورها وينكشف له أن العالم الأسفل بأسره تحت سلطانه وتحت إشراق نوره ويلوح له من كماله وعلو درجته ما يبادر فيقول هذا ربي ثم إن اتضح ما فوقه مما رتبته رتبة القمر رأى أفول الأول في مغيب الهوى بالإضافة ألى ما فوقه فقال لا لا أحب الآفلين وكذلك يترقى حتى ينتهي إلى ما مثاله الشمس فيراه أكبر وأعلى فيراه قابلا للمثال بنوع مناسبة له معه والمناسبة مع ذي النقص نقص وأفول أيضا فمنه يقول وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا ومعنى الذي إشارة مبهمة لا=====مناسبة لها إذ لو قال قائل ما مثال مفهوم الذي لم يتصور إن يجاب عنه فالمنزه عن كل مناسبة هو الأول الحق
إلى أن قال فأقول علم التعبير يعرفك أيضا منهاج ضرب الأمثال لأن الرؤيا جزء من النبوة أما ترى أن الشمس في الرؤيا تعبيرها السلطان لما بينهما من المشاركة والمماثلة في معنى روحاني وهو الاستيلاء على الكافة مع فيضان الآثار على الجميع والقمر تعبيره الوزير لإفاضة الشمس نورها بواسطة القمر على العالم عند غيبتها عنه كما يفيض السلطان آثاره بواسطة الوزير على من يغيب عن حضرة السلطان وأن من رأى في يده خاتما يختم به أفواه الرجال وفروج النساء فتعبيره أنه مؤذن يؤذن قبل الصبح في رمضان وأن من يرى أنه يصب الزيت في الزيتون فتعبيره أن تحته جارية هي أمه وهو لا يعرف وباستقصاء ابواب التعبير تزيدك أنسا بهذا الجنس فلا يمكن اشتغال بعددها بل أقول
كما أن في الموجودات العالية الروحانية ما مثاله الشمس والقمر==والكواكب فكذلك فيما له أمثلة أخرى إذا اعتبرت منه أوصاف أخر سوى النورانية فإن كان في تلك الموجودات ما هو ثابت لا يتغير وعظيم لا يستصغر ومنه تتفجر إلى أودية القلوب البشرية مياه المعارف ونفائس المكاشفات فمثاله الطور وإن كان ثم موجودات تتلقى تلك النفائس أولا بعضهم بعد البعض فمثاله الوادي وإن كانت تلك النفائس بعد اتصالها بالقلوب البشرية تجري من قلب إلى قلب فهذه القلوب أيضا أودية ومفتتح الوادي قلوب الأنبياء ثم العلماء ثم من بعدهم فإن كانت هذه الأودية دون الأول ومنه تغترف فبالحري أن يكون الأول هو الوادي الأيمن لكثرة يمنه وبركته وعلو درجته وإن كان الوادي الأدون يتلقى من آخر درجات الوادي الأيمن فمغترفه شاطئ الوادي الأيمن دون لجته وبيدائه وإن كان روح النبي سراجا منيرا أو كان ذلك الروح مقتبسا بواسطة وحي كما قال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا فما منه الاقتباس مثاله النار وإن كان المتلقنون من الأنبياء بعضهم على محض التقليد لما يسمعه وبعضهم على حظ من البصيرة فمثال حظ المقلد الخبر ومثال خظ المستبصر الجذوة والقبس والشهاب فإن صاحب الذوق مشارك للنبي في بعض الأحوال ومثال تلك===المشاركة الاصطلاء وإنما يصطلي بالنار من معه النار لا من يسمع خبرها وإن كان أول منازل الأنبياء الترقي إلى العالم المقدس عن كدورة الحس والخيال فمثال ذلك المنزل الوادي المقدس وإن كان لا يمكن وطء ذلك الوادي المقدس إلا بإطراح الكونين أعني الدنيا والآخرة والتوجه إلى الواحد الحق وكانت الدنيا والآخرة متقابلتين متحاذيتين وهما عارضان للجوهر النوراني البشري يمكن إطراحهما مرة والتلبس بهما مرة أخرى
فمثال إطراحهما عند الإحرام للمتوجه إلى كعبة القدس خلع النعلين بل يترقى إلى الحضرة حضرة الربوبية مرة أخرى ونقول إن كان لتلك الحضرة شيء بواسطته تنتقش العلوم المفضلة من الجواهر القابلة لها فمثاله القلم وإن كان في تلك الجواهر القابلة لها ما بعضها سابقة التلقي ومنها ما ينتقل إلى غيرها فمثاله اللوح المحفوظ والكتاب والرق المنشور وإن كان====فوق الناقش للعلوم شيء هو مسخر فمثاله اليد وإن كان لهذه الحضرة المشتملة على اليد واللوح والقلم والكتاب ترتيب منظوم فمثاله الصورة الأنسية وإن كان يوجد للصورة الأنسية نوع ترتيب على هذه المشاكلة فهي على صورة الرحمان وفرق بين أن يقال على صورة الرحمان وبين أن يقال على صورة الله لأن الرحمة الإلهية هي التي صورت الحضرة الإلهية بهذه الصورة
ثم أنعم على آدم فأعطاه صورة مختصرة جامعة لجميع أصناف ما في العالم حتى كأنه كل ما في العالم فهو نسخة من العالم مختصرة
وصورة آدم أعني هذه الصورة مكتوبة بخط الله تعالى وهو الخط الالهي الذي ليس برقم وحروف إذ تنزه خطه عن أن يكون رقما وحروفا كما تنزه كلامه عن أن يكون صوتا ولفظا وقلمه عن أن يكون خشبا أو قصبا ويده عن أن تكون لحما وعظما ولولا هذه الرحمة لعجز الآدمي عن معرفة ربه إذ لا يعرف ربه إلا من عرف نفسه فلما كان هذا في آثار الرحمة كان على صورة الرحمان لا=====على صورة الله فإن حضرة الإلهية غير حضرة الرحمة وغير حضرة الملك وغير حضرة الربوبية ولذلك أمر بالعياذ بجميع هذه الحضرات فقال قل أعوذ برب الناس مالك الناس إله الناس
ولولا هذا المعنى لكان قوله إن الله خلق آدم على صورة الرحمان غير منظوم لفظا بل كان ينبغي أن يقول على صورته واللفظ الوارد في الصحيح الرحمان ولأن تمييز حضرة الملك من حضرة الربوبية يستدعي شرحا طويلا فلنتجاوزه ويكفيك من الأنموذج هذا القدر فإن هذا بحر لا ساحل له وإن وجدت في نفسك نفورا عن هذه الأمثال فآنس قلبك بقوله تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها الآية وأنه كيف ورد في التفسير أن الماء هو المعرفة والقرآن والأودية القلوب
ثم قال خاتمة واعتذار
لا تظنن من هذا الانموذج وطريق ضرب المثال رخصة مني في===رفع الظواهر واعتقادا في إبطالها حتى أقول مثلا لم يكن مع موسى نعلان ولم يسمع الخطاب بقوله فاخلع نعليك حاشا لله فإن إبطال الظواهر رأي الباطنية الذين نظروا بالعين العوراء إلى أحد العالمين ولم يعرفوا الموازنة بينهما ولم يفهموا وجهه
كما إن إبطال الأسرار مذهب الحشوية فالذي يجرد الظاهر حشوى والذي يجرد الباطن باطني والذي يجمع بينهما كامل لذلك قال عليه السلام للقرآن ظاهر وباطن وحد ومطلع وإنما نقل هذا عن علي بن أبي طالب موقوفا عليه بل أقول فهم موسى من الأمر بخلع النعلين إطراح الكونين فامتثل الأمر ظاهرا بخلع النعلين وباطنا بإطراح العالمين فهذا هو الاعتبار أي العبور من الشيء إلى غيره ومن الظاهر إلى السر وفرق بين من سمع قول رسول الله لا تدخل====الملائكة بيتا فيه كلب فيقتني الكلب في البيت ويقول ليس الظاهر مرادا بل المراد تخلية بيت القلب عن كلب الغضب فإنه يمنع المعرفة التي هي من أنوار الملائكة إذ الغضب غول العقل وبين من يمتثل الأمر في الظاهر ثم يقول الكلب ليس كلبا لصورته بل لمعناه وهو السبعية والضراوة وإذا كان حفظ البيت الذي هو مقر الشخص والبدن واجبا عن صورة الكلب فلأن يجب حفظ بيت القلب وهو مقر الجوهر الحقيقي الخاص عن شر الكلبية أولى فأنا أجمع بين الظاهر والسر جميعا فهذا هو الكامل وهو المعنى بقولهم الكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ولذلك ترى الكامل لا تسمح نفسه بترك حد واحد من حدود الشرع مع كمال البصيرة وهذه مغلطة بسببها وقع===بعض السالكين في إباحة وطى بساط الأحكام ظاهرا حتى أنه ربما ترك أحدهم الصلاة وزعم أنه دائما في الصلاة بسره وهذا أسوأ بغلطه من الحمقى الإباحية الذين تأخذهم الترهات كقول بعضهم إن الله غني عن عملنا وقول بعضهم إن الباطن مشحون بالخبائث وليس يمكن تزكيتها ولا مطمع في استئصال الغضب والشهوة لظنه أنه مأمور باستئصالهما وهذه حماقات
وقد أبطلنا جميع ذلك في كتاب الجام العوام ومنشأ الرسالة في أحكام الزيغ والضلالة
وأما ما ذكرناه فهو كبوة جواد وهفوة سالك جره الشيطان فدلاه=========بحبل غرور وأرجع إلى حديث النعلين فأقول ظاهر خلع النعلين منبه على ترك الكونين فالمثال في الظاهر حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة ولكل حق حقيقة وأهل هذه المرتبة هم الذين بلغوا درجة الزجاجة كما سيأتي معنى الزجاجة لأن الخيال الذي من طينته يتخذ المثال صلب كثيف يحجب الأسرار ويحول بينك وبين الأنوار ولكن إذا صفى حتى صار كالزجاج الصافي صار غير حائل عن الأنوار بل صار مع ذلك حافظا للأنوار عن الانطفاء بعواصف الريح وسيأتيك قصة الزجاجة
فاعلم أن العالم الكثيف الخيالي السفلي صار في حق الأنبياء زجاجة ومشكاة للأنوار ومصفاة للأسرار ومرقاة إلى العالم الأعلى وبهذا تعرف أن المثال الظاهر حق ووراءه سر وقس على هذا الطور والنار وغيرهما
قلت ليس المقصود هنا الكلام المفصل على ما في هذا الكلام وأمثاله فإن علماء المسلمين قد بينوا من ذلك ما فيه كفاية=====وقد تكلمنا في غير هذا الموضع على ما شاء الله تعالى من ذلك
والكلام الجملي إن مثل هذا الكلام يشتمل على أمور باطلة من جهة النقل كقوله إن في الصحيح إن الله خلق آدم على صورة الرحمان وقوله على صورته ليس في الصحيح فهذا من أبين الباطل فإن اللفظ الذي في الصحيح من غير وجه على صورته
وأما قوله على صورة الرحمان فيروى عن ابن عمر وفيه كلام قد ذكرناه مع ما قاله عامة طوائف الناس في هذا الحديث في غير هذا الموضع ويشتمل على أمور باطلة وهي في أنفسها مخالفة للشرع والعقل مثل ما فيه من أن ملكا من الملائكة وهو العقل الفعال مبدع لجميع ما تحته من المخلوقات أو أن الملائكة يسمونها العقول والنفوس أبدع بعضها بعضا أو أن عالم الشهادة هو المحسوسات وعالم الغيب المعقولات أو أن تفسير القرآن هو مثل تعبير الرؤيا وأمثال ذلك مما ليس==هو من قول المسلمين واليهود والنصارى بل من أقوال الملاحدة من الصابئين والفلاسفة والقرامطة
وفيها ما هو من جنس الإشارة والاعتبار الذي سلكه الفقهاء والصوفية كما في قوله إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب فإذا قيس على تطهير القلب عن الأخلاق الخبيثة كان هذا من جنس إشارات الصوفية وقياس الفقهاء
ومنه ما هو من جنس القياس الفاسد كما ذكر من أن موسى أمر مع خلعه للنعلين بخلع الدنيا والآخرة وأن ما ينزل على قلوب أهل المعرفة من جنس خطاب تكليم موسى وتكليمه بهذا باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها وهو مبسوط في غير هذا الموضع وما فيه من تعظيم الأمر==والنهي وقتل من يبيح المحرمات كلام حسن فإن أبا حامد هو في علم المعاملة والأمر والنهي كلامه من جنس كلام أمثاله من أهل التصوف والفقه وأما ما سماه هو علم المكاشفة فكلامه فيه ألوان فتارة يذكره بصوت أهل الفلسفة وتارة بصوت الجهمية وتارة بصوت هو من تصويت أهل الحديث والمعرفة وتارة يطعن على هؤلاء وتارة يذكر ما هو غير ذلك
وكلامنا في هذا الجواب إنما كان على فساد ما احتجوا به في قوله أول ما خلق الله العقل فبينا فساد كلامهم من وجوه
الأول أن كلام ابن الجوزي على حديث العقل قد تقدم حيث بدأنا بالحديث وذكرنا ما قال فيه أئمة العلم وانقضىالثاني أن هؤلاء لا يجعلون العقول والنفوس التي يثبتها الفلاسفة من عالم الخلق بل يفسرون عالم الخلق بعالم الأجسام بناء على أن الخلق التقدير وأن الأجسام هي ذوات المقدرات
ويقولون بناء على أصل هؤلاء الفلاسفة والذين وافقهم عليه هؤلاء أن العقول والنفوس ليست أجساما بل هي عالم الأمر عندهم كما يقولون ما يذكره أبو حامد في مواضع الفرق بين عالم الملك والملكوت والجبروت
ويفسرون عالم الملك بعالم الأجسام
وعالم الملكوت بعالم النفوس لأنها باطن للأجسام
وعالم الجبروت بالعقول لأنها غير متصلة بالأجسام ولا متعلقة بها ومنهم من يعكس
وقد يجعلون الإسلام والإيمان والإحسان مطابقا لهذه الأمور ومعلوم أن ما جاء في الكتاب والسنة من لفظ الملكوت كقوله تعالى بيده ملكوت كل شيء
وقوله في ركوعه سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة لم يرد به هذا باتفاق المسلمين ولا دل كلام أحد من السلف والأئمة على التقسيم الذي يذكرونه بهذه الألفاظ وهم يعبرون بهذه العبارات المعروفة عند المسلمين عن تلك المعاني التي تلقوها عن الفلاسفة

====وضعا وضعوه ثم يريدون أن ينزلوا كلام الله تعالى ورسوله على ما وضعوه من اللغة والاصطلاح وهذا لو كانت تلك المعاني التي يذكرها الفلاسفة صحيحة ما جاز بل كان من الكذب على الله تعالى وعلى رسوله أنه يقال أنه أرادها فكيف وأكثر تلك المعاني باطلة ومضطربة وما يذكرونه من الأقيسة العقلية على ثبوتها أقيسة ضعيفة بل فاسدة وقد اعترف أساطين الفلاسفة بأنها لا تفضي إلي اليقين وكل منهم يعبر عن المعاني الفلسفية بعبارات إسلامية ومنهم من لا يبين لأكثر الناس أن مراده ذلك ومنهم من يزعم أن تلك المعاني حصلت له بطريق الكشف والمشاهدة كما يزعمه صاحب الفتوحات المكية وأشباهه وقد يقول عن الملائكة أنوار في أنوار وأنوار في ظلال وأنوار في ظلمه
والأول هي العقول
والثاني هي النفوس الفلكية
والثالث النفوس الطبيعية
ومعلوم أن الملائكة الذين وصفهم الله تعالى في الكتاب والسنة لا ينطبقون على هذه العقول العشرة والنفوس التسعة التي يذكرونها كما قد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع
ولهذا يؤول بهم الأمر إلى أن يجعلوا الملائكة والشياطين أعراضا تقوم بالنفس ليس أعيانا قائمة بنفسها حية ناطقة ومعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما أخبرت به الرسل واتفق عليه المسلمون وإن كان قد يعني بالشيطان العاتي المتمرد من كل نوع وقد يعني به بعض الناس عرضا

===وهذا كما يجعلون كلام الله ما يفيض على نفس النبي من غير أن يثبتوا لله تعالى كلاما خارجا عما في نفس النبي وعند التحقيق فلا فرق عندهم بين الفيض على نفس النبي وسائر النفوس إلا من جهة كونها أصفى وأجمل وحينئذ فيكون القرآن كلام النبي وهذا حقيقة قول الوحيد الذي قال في القرآن إن هذا إلا قول البشر كما قد بينا في غير هذا الموضع
ولهذا يقولون إنه لم يسجد لآدم إلا الملائكة الأرضية ويعنون بالسجود انقياد هذه القوى للبشر كما في جواهر القرآن
قال وأما الأفعال فبحر متسع أكنافه ولا ينال بالاستقصاء أطرافه بل ليس في الوجود إلا الله وأفعاله فكل ما سواه فعله لكن القرآن اشتمل على الخلق منها الواقع في عالم الشهادة كذكر السموات والكواكب والأرض والجبال والبحار والحيوان والنبات وإنزال==الماء الفرات وسائر أصناف النبات والحيوان وهي التي ظهرت للحس وأشرف أفعاله وأعجبها وأدلها على جلالة صانعها مالا يظهر للحس بل هو من عالم الملكوت وهي الملائكة الروحانية والروح والقلب أعني العارف بالله تعالى من جملة أجزاء الآدمي فإنها أيضا من جملة عالم الغيب والملكوت وخارج عن عالم الملك والشهادة ومنها الملائكة الأرضية الموكلة بجنس الإنسان وهي التي سجدت لآدم عليه السلام
ومنها الشياطين المسلطة على جنس الإنسان وهي التي امتنعت عن السجود لآدم
ومنها الملائكة السماوية وأعلاهم الكروبيون وهم العاكفون في حظيرة القدس لا التفات لهم إلى الآدميين بل لا التفات لهم إلى غير الله تعالى لاستغراقهم بجمال الحضرة حضرة الربوبية وجلالها فهم قاصرون عليه لحاظهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا تستبعد أن يكون في عباد الله من يشغله جلال الله تعالى عن الالتفات إلى آدم وذريته ولا يستعظم الآدمي إلى هذا الحد فقد قال رسول الله إن لله أرضا بيضاء تسير الشمس فيها ثلاثين يوما هي مثل أيام الدنيا ثلاثين مرة مشحونة خلقا لا يعلمون أن الله تعالى خلق آدم وإبليس رواه ابن عباس فاستوسع مملكة الله تعالى==قلت فهذا الكلام سيعظمه في بادئ الرأي أو مطلقا من لم يعرف حقيقة ما جاء به الرسول ولم يعلم حقيقة الفلسفة التي طبق هذا الكلام عليها وعبر عنها بعبارات المسلمين
فأما قول القائل إن القرآن اشتمل على الخلق وهي التي ظهرت للحس وأشرف أفعال الله ما لم يظهر للحس يعني ولم يشتمل القرآن عليه فهذا مع ما فيه من الغض بالقرآن وذكر اشتماله على القسم الناقص دون الكامل وتطرق أهل الإلحاد إلى الاستخفاف بما جاءت به الرسل هو كذب صريح يعلم صبيان المسلمين أنه كذب على القرآن
فإن في القرآن من الأخبار عن الغيب من الملائكة والجن والجنة والنار وغير ذلك ما لا يخفى على أحد وهو أكثر من أن يذكر هنا وفي القرآن من الأخبار بصفات الملائكة وأصنافهم وأعمالهم ما لا يهتدي هؤلاء إلى عشره إذ ليس عندهم من ذلك إلا شيء قليل مجمل بل الرسول إنما بعث ليخبرنا بالغيب والمؤمن من آمن بالغيب
وما ذكره من المشاهدات فإنما ذكره آية ودلالة وبينة على ما أخبر به من الغيب فهذا وسيلة وذلك هو المقصود
ثم يقال إنه إنما ذكر الوسيلة يا سبحان الله إذا لم يكن الإخبار عن هذا القسم في هذا الكتاب الذي ليس تحت أديم السماء كتاب أشرف منه وعلم هذا لا يؤخذ عن الرسول الذي هو أفضل خلق الله تعالى في كل شيء في العلم والتعليم وغير ذلك أيكون ذكر هذا في كلام أرسطو وذويه وأصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثال هؤلاء الذين يثبتون ذلك بأقيسة مشتملة على دعاوى مجردة لا نقل صحيح ولا عقل صريح بل تشبه الأقيسة الطردية الخالية عن التأثير وتعود عند التحقيق إلى خيالات لا حقيقة لها في الخارج كما سننبه عليه==وكذلك روح الإنسان وقلبه في الكتاب والسنة من الإخبار عن ذلك ما لا يكاد يحصيه إلا الله تعالى
ثم قوله بعد ذلك ومنها الملائكة الأرضية الموكلة بجنس الإنسان وهي التي سجدت لآدم وزعم أن ملائكة السموات والكروبيين لم يسجدوا لآدم هو أبعد قول عن أقوال المسلمين واليهود والنصارى فإن القرآن قد أخبر أنه سجد الملائكة كلهم أجمعون فأتى بصيغة العموم ثم أكدها تأكيدا بعد تأكيد
فليت شعري إذا أراد المتكلم الأخبار عن سجود جميع الملائكة هل يمكنه أبلغ من هذه العبارة لكن من يفسر الملائكة بقوى النفوس لا يستبعد أن يقول مثل هذا والملائكة السماوية عندهم هي النفوس الفلكية
والكروبيون على أصطلاحهم هم العقول العشرة
ومعلوم أن هذا كله ليس من أقوال أهل الملل اليهود والنصارى فضلا عن المسلمين
وقول القائل إن اولئك لا يلتفتون إلى الادميين هو من أقوال الفلاسفة الضالين
والمشهور عند أهل السنة والجماعة أن الأنبياء والأولياء أفضل من جميع الملائكة==وقد قال عبد الله بن سلام ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد فقيل له يا أبا يوسف ولا جبرائيل ولا ميكائيل فقال يا ابن أخي أو تعرف ما جبرائيل وميكائيل إنما جبرائيل وميكائيل خلق مسخر مثل الشمس والقمر ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد
وثبت بالإسناد الذي على شرط الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال قالت الملائكة يا ربنا قد جعلت لبني ادم الدنيا ياكلون منها ويشربون فاجعل لنا الاخرة كما جعلت لهم الدنيا فقال لا افعل ثم اعادوا عليه فقال لا افعل ثم اعادوا عليه فقال وعزتي لا اجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان==وروى هذا عبد الله بن احمد في كتاب السنة عن النبي باسناد مرسل والمرسل يصلح للاعتضاد بلا نزاع وقد تكلمت عن هذه المسألة بكلام مبسوط كتبناه من سنين كثيرة
وأما قوله ومنها الشياطين المسلطة على جنس الإنسان وهي التي امتنعت عن السجود فغلط ايضا فأنه لم يؤمر بالسجود من جنس هؤلاء الا إبليس ولم يؤمر بالسجود لادم إحد من ذريته فكيف يوصفون بالامتناع المذكور
وإذا كان رب العباد يسمع كلام عباده ويجيب دعاءهم عند المسلمين فأي نقص على الملائكة إذا استغفروا لهم
بل كان من قولهم إن الله لا يجيب داعيا ولا يقدر على تغيير ذرة==في العالم وإنما دعاء العباد تصرف نفوسهم في هيولى العالم وأن العالم لازم لذاته لا يمكنه دفعه عن هذا اللزوم بل أئمتهم على أنه لا يشعر بأعيان خلقه وإذا كانوا كذلك لم يستنكر لهم أن يقولوا في ملائكته هذا
وأما قوله مستغرقون بجمال الحضرة وجلالها
فهذا الكلام من جنس الطامات فإن هذا من جنس ما يسميه بعض الصوفية الفناء وهو استغراق القلب في الحق حتى لا يشعر بغيره ومعلوم باتفاق الناس أن حال البقاء أكمل من الفناء وهذه حال الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين=ومعلوم أن الرسل أفضل الخلق وهم يدعون العباد إلى الله تعالى ويعلمونهم ويجاهدونهم ويأكلون الطعام ويمشون في الأسواق فلو كانت تلك الحال أكمل لكان من لم يرسل أكمل من الرسل
وهذا خلاف دين المسلمين واليهود والنصارى لكنه يوافق دين غالية الصابئة من المتفلسفة الذين يفضلون الفيلسوف على النبي والرسول وحال=الجهمية الاتحادية الذين يفضلون الولي أو خاتم الأولياء على الرسل ومعلوم أن هذا باطل وكفر عند المسلمين
وأما قوله ولا تستبعد أن يكون في عباد الله تعالى من يشغله جلال الله تعالى عن الالتفات إلى آدم وذريته فهذا ليس صفة كمال بل الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم مع ذلك يدبرون من أمر الخلق ما أمروا بتدبيره وقد أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس=====وقد أخبر النبي أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهم أهل الدنيا النفس
ومعلوم أن النفس لا يشغل الإنسان عما يزاوله من الأعمال فحينئذ كان التسبيح والمشاهدة لجلال الله تعالى لا يشغلهم عن التدبير الذي وكلوا به وهذا الجمع أكمل لا سيما وهم يقولون كمال الإنسان التشبه بالإله على حسب الطاقة وقد وافقهم هؤلاء على هذا المعنى
وكذلك قولهم في الملأ الأعلى وإذا كان ذلك فمعلوم أن الله تعالى لا يشغله ما يفعله عن معرفته ولمه وذكره شيء بل هو سبحانه لا يشغله ما سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بالحاح الملحين
وإن كان قولهم في الله تعالى موافقا لقول المسلمين في علمه وقدرته ومشيئته فالكلام مع من يذكر مطابقة الكتاب والسنة لقولهم وهذا لا يكون إلا مسلما فلا يمكن ذكره المطابقة مع المخالفة لأصول المسلمين
وأما مع من لا يبالي بدين الرسول أو يفضل الفيلسوف على النبي فهذا لكلامه مقام آخر يستقصي فيه هذا الاستقصاء كما بسط تناقض أقوالهم على أصولهم وفسادها على كل أصل في غير هذا الموضع وقد قال الله تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم

===ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم الآيتين
ومعلوم أن حملة العرش ومن حوله من أعظم المقربين من الملائكة بل قد ذكر من ذكر من المفسرين أن الملائكة المقربين هم حملة العرش والكروبيون من الملائكة مشتقون من كرب إذا قرب فالمراد وصفهم بالقرب لا بالكرب الذي هو الشدة كما يظن ذلك طوائف من هؤلاء ويفرقون بين الكروبيين والروحانيين بأن أولئك في عالم الجلال وهؤلاء في عالم الجمال فإن هذا توهم وخيال لم يقله أحد من علماء أهل الملل المتلقين ما يقولونه عن الرسل صلى الله عليهم وسلم أجمعين والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة ليس هذا موضع ذكرها
والحديث الذي ذكره عن ابن عباس من الموضوعات المكذوبات باتفاق أهل العلم ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة وإنما يوجد هذا الكلام أو نحوه في جزء فيه التفكر والاعتبار لابن أبي الدنيا===وأيضا فهؤلاء يعتقدون من جهة علم الهيئة أن هذا الحديث باطل فإذا كان هؤلاء يفسرون عالم الخلق بعالم الأجسام وعالم الأمر بعالم العقول والنفوس ويزعمون أنها ليست أجساما وعندهم هذا العالم لا يقال فيه أنه مخلوق بل هو مبدع بطل قولهم إن أول مخلوق هو العقل
وإن كان هذا التقسيم هو خلاف إجماع المسلمين إذ هم مجمعون على أن الله تعالى خالق كل شيء وأن كل ما سواه فهو مخلوق وصفاته ليست خارجة عن مسمى اسمه بل القرآن كلام الله غير مخلوق
وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم
وإن كان بعضهم قد نازع في بعض الأعراض كما في أفعال العباد التي تنازع فيها القدرية ولم ينازعوا في الأعيان والملائكة من====الأعيان لا من الأعراض فهي من المخلوقات باتفاق المسلمين وليس بين أهل الملل خلاف في أن الملائكة جميعهم مخلوقون ولم يجعل أحد منهم المصنوعات نوعين عالم خلق وعالم أمر بل الجميع عندهم مخلوق
ومن قال إن قوله تعالى ألا له الخلق والأمر أريد به هذا التقسيم الذي ذكره فقد خالف إجماع المسلمين
وأما نظارهم الذين يتكلمون بلفظ الجوهر والجسم والعرض فمتفقون على أن جميع الملائكة أجسام بل متفقون على أن كل ممكن إما أن يكون جسما أو عرضا مع تنازعهم في الجسم هل هو منقسم إلى الأجزاء التي لا تنقسم أو غير منقسم وممتنع عندهم وجود قائم بنفسه وليس بجسم وهم متنازعون في الوجود مطلقا
ومن ذكر من المتأخرين كالشهرستاني والرازي والآمدي ونحوهم====أنهم تكلموا في حدوث الأجسام ولم يعتمدوا دليلا على نفي ما ليس بجسم كالعقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة بل سكتوا عن ذلك فليس الأمر كما ذكروا بل قد صرح أئمة المتكلمين بأن نفي ذلك معلوم بالضرورة المستغنية عن الدليل وكثير منهم يقول إن كل موجودين فإما متباينان وإما متحايثان وأن هذا معلوم بالضرورة
وأما الممكنات فمتفقون على أن هذا التقسيم ثابت فيها بالضرورة وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع
فإذا قيل لفظ الخلق مشترك في اصطلاحهم كما ذكره أبو حامد عنهم فقال وحد الخلق هو اسم مشترك قد يقال خلق لإفادة وجود كيف كان وكذلك قد يقال خلق لإفادة وجود حاصل عن مادة وصورة كيف كان وقد يقال خلق هذا المعنى الثاني لكن بطريق الاختراع من غير سبق مادة فيها قوة وجوده وإمكانه
وإذا كان لفظ الخلق مشتركا عندهم بين مطلق الإيجاد وبين الإيجاد المختص بالأجسام العنصرية أمكن أن يحمل قوله أول ما خلق الله العقل على المعنى الأول====وما ذكروه من نفي الخلق عن العقول والنفوس فهو على الاصطلاحين الآخرين اللذين قد تكلم بهما أبو حامد تارة ذاكرا وتارة أثرا
قيل لا ريب أن القوم لهم أوضاع واصطلاحات كما لكل أمة ولكل أهل فن وصناعة ولغتهم في الأصل يونانية وإنما ترجمت تلك المعاني بالعربية ونحن نحتاج إلى معرفة اصطلاحهم لمعرفة مقاصدهم وهذا جائز بل حسن بل قد يجب أحيانا كما أمر النبي زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود وقال لا آمنهم
قال البخاري في صحيحه وقال خارجة بن زيد عن زيد بن ثابت أن النبي أمره أن يتعلم كتاب يهود حتى كتبت للنبي كتبه===وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه فإذا كان هذا في كتب الأعاجم بألسنتهم ومعرفتنا بلغات الناس واصطلاحاتهم نافعة في معرفتنا مقاصدهم ثم نحكم فيها كتاب الله تعالى فما وافقه فهو حق وما خالفه فهو باطل كما قال الله تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
والاختلاف نوعان
نوع في جنس اللغة كالعربية والفارسية والرومية واليونانية ويقال هي ونوع في أصنافهم إذ قد يكون في الألفاظ العرفية العامة والاصطلاحية الخاصة نظير ما في لغة العرب
ولغة هؤلاء المصنفين منهم كانت من هذا النمط فأما الألفاظ التي أنزل الله بها القرآن الذي تلاه رسول الله على المسلمين وأخذوا عنه لفظه ومعناه وتناقل ذلك أهل العلم بالكتاب والسنة بينهم خلف عن سلف فهذه لا يجوز أن يرجع في معانيها إلى مجرد أوضاعهم ولا ريب أن القوم أخذوا العبارات الإسلامية القرآنية والسنية فجعلوا يضعون لها معاني توافق معتقدهم ثم يخاطبون بها ويجعلون مراد الله تعالى ورسوله من=====جنس ما أرادوا فحصل بهذا من التلبيس على كثير من أهل الملة ومن تحريف الكلم عن مواضعه ومن الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته ما الله به عليم ولهذا قد يوافقون المسلمين في الظاهر ولكنهم في الباطن زنادقة منافقون
وهذا كما جاءوا إلى لفظ المحدث وفي القديم فقالوا
الإحداث هو مشترك يطلق على وجهين
أحدهما زماني
والآخر غير زماني
فمعنى الإحداث الزماني الإيجاد للشيء بعد أن لم يكن له وجود في زمان سابق
ومعنى الإحداث غير الزماني هو إفادة الشيء وجودا وذلك الشيء ليس له في ذاته ذلك الوجود لا بحسب زمان دون زمان بل بحسب كل زمان
وغرضهم بهذا الوضع حتى يطلقوا بين المسلمين أن السماوات والأرض وما بينهما محدث مخلوق فيظن الظان أنهم لا ينازعون في كون ذلك محدثا مخلوقا مع العلم الضروري أن قولهم فيها ليس ما أخبرت به الرسل واتفق عليه أهل الملل======وكذلك أيضا قولهم إن الإبداع رسم مشترك لمفهومين أحدهما ما ينشؤه الشيء لا عن شيء ولا بواسطة شيء
والمفهوم الثاني أن يكون للشيء وجود مطلق عن سبب ترتب بلا متوسط وله في ذاته أن لا يكون موجودا وقد أفقد الذي في ذاته إفقادا تاما
قالوا وبهذا المفهوم العقل الأول مبدع في كل حال لأنه ليس وجوده من ذاته فله في ذاته العدم وقد أفقد ذلك إفقادا تاما
ومعلوم أن هذا المعنى ليس هو المعروف من لفظ الإبداع في اللغة التي نزل بها القرآن كما في قوله تعالى بديع السماوات والأرض ونحو ذلك ولفظ الخلق أبعد عن هذا المعنى فإن مثل هذا المعنى يعلم بالاضطرار أنه ليس هو المراد بلفظ الخلق في القرآن والسنة
وقد فسروا لفظ الخلق بثلاثة معان ليس فيها واحد هو المراد في كلام الله تعالى ورسوله والمؤمنين فإن ما يذكرونه من إفادة وجود الملائكة بالمعنى الأول وما يذكرونه في اختراع الأفلاك والعناصر بالمعنى الثاني لم يرد واحدا منها الأنبياء والمؤمنون وذلك معلوم بالاضطرار والتواتر والإجماع====أما المعنى الثالث فكذلك فليس في كلام الرسل ما يثبت أن الخلق حاصل في أجسام هي مادة وصورة بل كلامهم ينفي ذلك وهذا بين فقد تبين أن أهلل الملل المتفقين على أن الله تعالى خلق الملائكة لا يريدون خلقهم بالمعنى الأول وهو الذي يريده الفلاسفة كما في قوله تعالى فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون وقوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون وقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن من أعمال الملائكة وعبادتهم وحركاتهم وكلامهم وأصنافهم ما ينافي أصولهم ويبطلها وكذلك قول النبي في الحديث الصحيح خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من نار وخلق آدم مما وصف لكم
وقد بين في غير هذا الموضع أن قولهم بصدور العقول والنفوس عنه هو نظير قول من جعل له بنين وبنات كما قال تعالى وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير
وتبين أيضا أن قولهم بتولد ذلك عنه هو كقول من يقول يتولد الملائكة====أو المسيح عنه وقد قال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فيسحشرهم إليه جميعا وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا الآية وقال تعالى وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون في عبادته ولا يستحسرون وقال تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون
وهذا باب واسع ليس هذا موضعه قد بسطناه في غير هذا الموضع وأما خلق السماوات والأرض فقد نص القرآن والتوراة أنه خلق ذلك في ستة أيام وتواترت بذلك الأحاديث ثم اتفق عليه أهل الملل فكيف يجوز أن يفسر بالاختراع اللازم لذاته من غير سبق مادة كما ذكروه في المعنى الثالث=====ولفظ الخلق المذكور في القرآن يتضمن معنيين كلاهما يناقض قولهم
يتضمن الإبداع والإنشاء المعروف ويتضمن التقدير
وعندهم العقول والنفوس ليس لها مقدار ولا هي أيضا مبدعة الإبداع المعروف
والسماوات ليست مبدعة الإبداع المعروف وقد قال تعالى وخلق كل شيء فقدره تقديرا
فذكر لفظ الخلق لكل شيء وذكر أنه قدر كل شيء تقديرا والملائكة عندهم لم تقدر بل ولم تخلق الخلق المعروف عند المسلمين وهذا يدل على مناقضتهم للرسل أيضا مع كثرة أدلة ذلك باللغة التي خوطبوا بها فهذا أصل
الأصل الثاني أن يقال لفظ الخلق المذكور في القرآن ليس مشتركا بالضرورة والاتفاق ولم يقل أحد من المسلمين أن قوله خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما==========وصف لكم يدل على معاني متباينة كلفظ العين والقرء ونحو ذلك
فإن زعموا أن لفظ الخلق في القرآن والسنة متضمن للتقدير حتى يفرقوا بين عالم الخلق والأمر بطل قولهم أول مخلوق العقل فإنه على هذا الاصطلاح لا يكون مخلوقا
وإن زعموا أنه يتضمن الإيجاد كيفما كان بطل تقسيمهم لعالم الخلق وعالم الأمر ومنعهم أن تكون الملائكة مخلوقة مع أن فساد هذا معلوم بالاضطرار من دين المسلمين فإنه ليس لأحد أن يقول أن الملائكة ليست مخلوقة ولا يقبل منه تفسير ذلك بحال مع النفي وهذا يدل على مناقضتهم للرسل مع كثرة أدلة ذلك
الوجه الثالث
أن هؤلاء يدعون أن العقل الأول صدر عنه جميع ما تحته فصدر عنه عقل ونفس وفلك وعن العقل عقل ونفس وفلك إلى العقل الفعال فإنه صدر عنه جميع ما تحته من المواد والصور ويسمون هؤلاء الأرباب الصغرى والآلهة الصغرى
ومعلوم بالاضطرار من جميع أهل الملل من المسلمين واليهود=======والنصارى أن شيئا من الملائكة ليس هو فاعلا لجميع المصنوعات ولا أنه مبدع لجميع ما تحت فلك القمر بل قال الله تعالى
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون
وقال الله تعالى وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى
وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا
وقال الله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير
وقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا وقال الله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين وقال الله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي======للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا
ولأن ما اتفق عليه أهل الملل من أن الملائكة سجدوا لآدم يبطل قول هؤلاء إن أضعف العقول التي هي الملائكة عندهم هو مبدع جميع البشر ورب كل ما تحت فلك القمر
الوجه الرابع
إن من تدبر الكتب المصنفة في العقل لأهل الآثار تبين له تحريف هؤلاء مع ضعف الأصل ومن أشهرها كتاب العقل لداود بن المحبر وهو قديم في أوائل المائة الثالثة روى عنه الحارث بن أبي أسامة ونحوه وكذلك مصنفات غيره رووا فيها عن ابن عباس أنه دخل على أم المؤمنين عائشة فقال يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقل قيامه ويكثر رقاده وآخر يكثر قيامه ويقل رقاده أيهما أحب إلى الله قالت سألت رسول الله عما سألتني عنه فقال أحسنهما عقلا فقلت يا رسول الله إنما أسألك عن عبادتهما فقال يا عائشة إنهما لا يسئلان عن عبادتهما إنما يسئلان عن عقولهما فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة=ورووا فيها عن البراء بن عازب قال قال رسول الله إن لكل إنسان سبيل مطية وثيقة ومحجة واضحة وأوثق الناس مطية وأحسنهم دلالة ومعرفة بالحجة الواضحة أفضلهم عقلا
ورووا فيها عن ابن عمر قال قال رسول الله إن الرجل ليكون من أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الحج وأهل الجهاد فما يجزىء يوم القيامة إلا بقدر عقله=====وعن علي قال قال رسول الله والله لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا بأكثر الناس صلاة ولا صياما ولا حجا ولا اعتمارا ولكنهم عقلوا عن الله تعالى مواعظه فوجلت منه قلوبهم واطمأنت إليه النفوس وخشعت منهم الجوارح ففاقوا الخليفة بطيب المنزلة وحسن الدرجة عند الناس في الدنيا وعند الله في الآخرة
فهذه الأحاديث ونحوها هي مما روي بالأسانيد في العقل
وف ضمن هذه الأحاديث ونحوها رووا الحديث المتقدم أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل وقال له أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وعليك العقاب
فهل يشك من سمع هذه الأحاديث أن المراد بذلك عقل الإنسان ليس المراد ما هو أعظم المخلوقات الموجودات بعد الباري عندهم وهو عندهم أبدع كل ما سواه وأن الاستدلال بهذا الحديث ونحوه على إرادة هذا المعنى من أعظم الضلال وأبعد الباطل والمحال هذا لعمري لو كان ذلك ثابتا عن رسول الله وقد قال أبو حاتم بن حبان البستي لست أحفظ عن رسول الله خبرا صحيحا في العقل لأن أبان بن أبي===المحبر ومنصور بن سقير وذويهم كلهم ضعفاء هذا مع أن أبا حاتم هذا مع فضيلته وبراعته وحفظه كان يتهم بأن في كلامه من جنس الفلسفة أشياء حتى جرت له بسبب ذلك قصة معروفة عند العلماء بحاله
وقد تقدم كلام سائر أهل المعرفة في أحاديث العقل واتفاقهم على ضعفها كما قال أبو الفرج بن الجوزي
وقد قال أبو الفرج بن الجوزي في ذم الهوى وغيره المنقول عن رسول الله في فضل العقل كثير إلا أنه بعيد الثبوت
وقال أبو جعفر العقيلي لم يثبت في هذا المتن شيء من هذا النحو وهذا الذي قالاه هما ونحوهما معروف لمن كان له خبرة بالآثار=======بل لفظ العقل اسم ليس له وجود في القرآن وإنما يوجد ما تصرف منه لفظ العقل نحو يعقلون وتعقلون وما يعقلها إلا العالمون وفي القرآن الأسماء المتضمنة له كاسم الحجر والنهي والألباب ونحو ذلك
وكذلك في الحديث لا يكاد يوجد لفظ المصدر في كلام النبي في حديث صحيح إلا في مثل الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال خرج رسول الله في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقلن وبم يا رسول الله=======فقال تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن قلن وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله فقال أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل قلن بلى قال هذا من نقصان عقلها قال وإذا حاضت لم تصل ولم تصم قلن بلى قال فهذا من نقصان دينها وهذا الحديث ونحوه لا ينقض ما ذكره الحافظ أبو حاتم وأبو الفرج والعقيلي وغيرهم إذ ليس هو في فضل العقل وإنما ذكر فيه نقصان عقل النساء
وذلك أن العقل مصدر عقل يعقل عقلا إذا ضبط وأمسك ما يعلمه
وضبط المرأة وإمساكها لما تعلمه أضعف من ضبط الرجل وإمساكه ومنه سمي العقال عقالا لأنه يمسك البعير ويجره ويضبطه وقد شبه النبي ضبط القلب للعلم بضبط العقال للبعير فقال في الحديث المتفق==عليه استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها
وقال مثل القرآن مثل الإبل المعقلة إن تعاهدها صاحبها أمسكها وإن أرسلها ذهبت
وفي الحديث الآخر أعقلها وأتوكل أو أرسلها بل قال اعقلها وتوكل
فالعقل والإمساك والضبط والحفظ ونحو ذلك ضد الإرسال والإطلاق والإهمال والتسييب ونحو ذلك وكلاهما يكون بالجسم الظاهر للجسم الظاهر ويكون بالقلب الباطن للعلم الباطن فهو ضبط العلم وإمساكه وذلك مستلزم لاتباعه فلهذا صار لفظ العقل يطلق على=========العمل بالعلم كما قد بسطنا الكلام على مسمى العقل وأنواعه في غير هذا الموضع
إذا الغرض هنا بيان كذب هؤلاء على الله تعالى وعلى رسوله
الوجه الخامس
أن العقل في لغة المسلمين كلهم أولهم عن آخرهم ليس ملكا من الملائكة ولا جوهرا قائما بنفسه بل هو العقل الذي في الإنسان ولم يسم أحد من المسلمين قط أحدا من الملائكة عقلا ولا نفس الإنسان الناطقة عقلا بل هذه من لغة اليونان ومن المعلوم أن حمل كلام رسول الله أو كلام الله تعالى على ما لا يوجد في لغته التي خاطب بها أمته ولا في لغة أمته وإنما توجد في لغة أمة لم يخاطبهم بلغتهم ولم تتخاطب أمته بلغتهم فهذا يبين أن الذين وضعوا الأحاديث التي رويت في ذلك ليس المراد بها عند واضعيها ما أثبته الفلاسفة من الجوهر القائم بنفسه فهؤلاء المستدلون بهذه الأحاديث على قول المتفلسفة لم يفهموا كلام الكاذبين الواضعين للحديث بل حرفوا معناها كما حرفوا لفظها فإذا كان هذا حالهم في الحديث الذي استدلوا به فكيف في غيره فتبين أن استدلالهم باطل قطعا
الوجه السادس
أن العقل في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة لا يراد به جوهر قائم بنفسه باتفاق المسلمين وإنما يراد به العقل الذي في الإنسان الذي=============هو عند من يتكلم في الجوهر والعرض من قبيل الاعراض لا من قبيل الجواهر
وهذا العقل في الأصل مصدر عقل يعقل عقلا كما يجيء في القرآن وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
وهذا كثير وهذا مثل لفظ السمع فإنه في الأصل مصدر سمع يسمع سمعا وكذلك البصر فإنه مثل الإبصار ثم يعبر بهذه الألفاظ عن القوى التي يحصل بها الإدراك فيقال للقوة التي في العين بصر والقوة التي يكون بها السمع سمع وبهذين الوجهين يفسر المسلمون العقل
ومنهم من يقول العقل هو من جنس العلم كما يقوله القاضي أبو بكر بن الباقلاني وأبو الطيب الطبري وأبو يعلى بن الفراء وغيرهم==ومنهم من يقول هو الغريزة التي بها يتهيأ العلم كما نقل ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي ويدخل ذلك في العقل العملي وهو العمل بمقتضى العلم
وأما تسمية الشخص العاقل عقلا أو الروح عقلا فهذا وإن كان يسوغ نظيره في اللغة فقد يسمون الفاعل الشخص بالمصدر فيسمى===========عدلا وصوما وفطرا فليس هذا من الأمور المطردة في كلامهم فلا يسمون الآكل والشارب أكلا وشربا ولو كان ذلك مما يسوغ في القياس بحيث يسوغ أن يسمى كل فاعل باسم مصدره فهذا إنما يسوغ في الاستعمال لا في الاستدلال فليس لأحد أن يضع هو مجازا لنفسه يحمل عليه كلام الله تعالى ورسوله وكلام من تكلم قبله إذ المقصود بالكلام هو فهم مراد المتكلم سواء كان لفظه يدل على المعنى وهو الحقيقة أو لا يدل إلا مع القرينة وهو المجاز
فليس لأحد أن يسمى الجوهر القائم بنفسه عقلا ثم يحمل عليه كلام النبي
ومعلوم بالاضطرار لمن يعرف لغة النبي والمسلمين الذين يتكلمون بلغته أن هذا ليس هو مراد النبي في اسم العقل فليس هذا مراد المسلمين باسم العقل ولا يوجد ذلك في استعمال المسلمين وخطابهم
وإذا كان كذلك لم يجز أن يتمسكوا بشيء من كلام الرسول الذي فيه لفظ العقل لو كان ثابتا على إثبات الجوهر الذي يسمونه عقلا
ومن تدبر ما يوجد من كلام المسلمين عامتهم وخاصتهم سلفهم وأئمتهم وفقهائهم ومحدثيهم وصوفيتهم ومفسريهم ونحاتهم ومتكلميهم لم يجد في كلام أحد منهم لفظ العقل مقولا على ما يزعمه هؤلاء من المتفلسفة ولا على ما يقال أنه ملك من الملائكة============ولا يسمون أحدا من الملائكة عقلا ولا الله تعالى عقلا إلا من أخذ ذلك عن الفلاسفة
هذا مع أنه مذكور في كتب الأصول والكلام في ذلك فيه من النزاع أقوال كثيرة تنازع فيها أهل الكلام وأهل النظر المنتسبين إلى الإسلام ثم إن قول المتفلسفة عندهم قول آخر
واعلم أن المقصود في هذا المقام أن لفظ العقل لا يعبر به عن جوهر قائم بنفسه لا عن ملك ولا غيره في عبارة رسول الله وأصحابه والتابعين وسائرعلماء المسلمين فلا يجوز أن يحمل شيء من كلامهم المذكور فيه لفظ العقل على مراد هؤلاء المتفلسفة بالعقول العشرة ونحو ذلك فينقطع دابر من يجعل لهم عمدة في الشريعة من هذا الوجه
ثم بعد هذا النزاع بين الناس في فرعين
أحدهما أن العقل الذي هو الإنسان ما هو
الثاني أن ما يعنيه المتفلسفة بلفظ العقل هل له وجود أم لا
وقد ذكروا في كتب الأصول النزاع في ذلك جملة كما يذكره القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي أبو الطيب والقاضي أبو يعلى وأبو الوفاء بن عقيل=====وأبو المعالي الجويني وأبو الخطاب وأبو الحسن بن الزاغوني والقاضي أبو بكر بن العربي المعافري وأكثر أهل الكلام
فإن هؤلاء يختارون أن العقل الذي هو مناط التكليف هو ضرب من العلوم الضرورية كالعلم باستحالة اجتماع الضدين وكون الجسم في مكانين ونقصان الواحد عن الاثنين والعلم بموجب العادات فإذا أخبره==========مخبر بأن الفرات يجري دراهم لا يجوز صدقه ومن أخبر بنبات شجرة بين يديه وحمل ثمرة وإدراكها في ساعة واحدة لا ينتظر ذلك ليأكل منها وإذا أخبر بأن الأرض تنشق ويخرج منها فارس بسلاح يقتله لا يهرب فزعا فإذا حصل له العلم بذلك كان عاقلا ولزمه التكليف
ثم قد نقل عن طوائف من الأئمة والعلماء ما يقتضي أنه القوة التي يعقل بها
وعن طوائف ما يقتضي أنه قد يكون مكتسبا فروى أبو الحسن التميمي في كتاب العقل عن محمد بن أحمد بن مخزوم عن إبراهيم الحربي عن أحمد بن حنبل أنه قال العقل غريزة والحكمة فطنة والعلم سماع والرغبة في الدنيا هوى والزهد فيها عفاف===وقد فسر القاضي أبو يعلى ذلك بأن قوله غريزة أنه خلق لله ابتداء وليس باكتساب
وذكر عن أبي محمد البربهاري أنه قال ليس العقل باكتساب إنما هو فضل من الله
وذكر عن أبي الحسن التميمي أنه قال في كتاب العقل ليس بجسم ولا صورة ولا جوهر وإنما هو نور فهو كالعلم
وعن بعضهم أنه قال هو قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات
وعن أبي بكر بن فورك أنه قال هو العلم الذي يمتنع به من فعل القبيح
وعن بعضهم أنه ما حسن معه التكليف=